ظاهرة الانتحار …. الدوافع وطرق الوقاية
المقدمة
يعتبر الانتحار سلوك عدواني ولا يخلو منه أي مجتمع من المجتمعات، ولكن تتباين نسبته وفقاً لتباين الحضارة والثقافة من مجتمع لآخر. وهو من أبشع الصور المأساوية البشرية التي يكون فيها القاتل والمقتول الانسان نفسه، فما تلك المشاعر والأسباب التي تدفع الانسان للتفكير في إنهاء حياته والاقدام علي الانتحار.
وفي واقع الأمر تعتبر مشكلة الانتحار إحدي المشكلات التي تحاول بعض المجتمعات إخفائها وعدم الاهتمام والاعتراف بوجودها، نظراً لارتباطها بمتطلبات الحياة والتغيرات التي تمر بها المجتمعات الانسانية علي جميع المستويات. وعلي العكس من ذلك نجد هناك مجتمعات اهتمت بمشكلة الانتحار نظراً لارتباطها بعدد من القضايا السلوكية مثل العنف والادمان والمخدرات والتفكك الأسري وغيرها من القضايا التي تدفع الي الانتحار. وفي الغالب تخلق التعقيدات المجتمعية في الشخص صراعات كثيرة وتصل تلك الصراعات الي مستوي الأزمات الحادة وإضطرابات في سلوكه، وتجعله يتمسك بالسلوك العدواني وسرعة التأثر بالمشاكل والتقليل من قيمة الذات، وينتج عن الاستمرار في تدمير الذات مشاكل كثيرة أهمها الانتحار.
وبالنسبة لمصر، فبالرغم من معانتها أيضاً من تلك الظاهرة وتزايدها في الفترة الأخيرة، إلا أن مصر وُضعت ضمن مجموعة شرق المتوسط التي تقع في أدني المعدلات العالمية والتي تتراوح نسبة الانتحار بها من 2-4 لكل 100000 من السكان وذلك وفقاً للتقارير الدولية.
وفي الفترة الأخيرة اتسعت هذه الظاهرة وامتدت عبر جميع المجتمعات، وسجلت منظمة الصحة العالمية في العقد الأخير 40 حالة إنتحار لكل 100 ألف نسمة، وهو ما ينذر بتحول المجتمع إلي التفكك ليصبح الانتحار هو المهدد الأكبر للوجود البشري، حيث أكد تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن معدلات الانتحار زادت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية بمعدل 60%. وبالنظر في أسباب هذه الظاهرة نجدها معقدة ومتداخلة وبالتالي تهدف الدراسة للكشف عن تلك الدوافع والأسباب التي أدت إلي الفعل الانتحاري ومحاولة تقديم حلول للسيطرة علي تلك المشكلة المتزايدة.
موضوع البحث
يتناول البحث مشكلة الإنتحار وأسبابها وأساليبها المختلفة، وأهم طرق العلاج للتخلص من تلك المشكلة أو التقليل منها وأثر الإعلام في إنتشارها. وتتضح أهمية الموضوع في رصد الأسباب وطرق العلاج ومحاولة تقديم بعض النصائح والتوصيات التي يغفل عنها بعض الإعلاميين للتغطية الجيدة في حوادث الإنتحار منعاً لإنتشارها.
أهمية البحث:
تعد ظاهرة الانتحار من الظواهر المتكررة التي تعاني من قلة الدراسات والبحوث، ونظراً لحساسية الموضوع وتعارضه مع الفكر الاجتماعي والثقافي والديني للمجتمع، فلابد من تناول هذا الموضوع للإسهام في تحليل ودراسة أسباب ظاهرة الانتحار والمساعدة في تقديم حلول للحد منها.
أهداف البحث:
1. مشكلة الانتحار من المشاكل المتكررة بشكل ملحوظ والمهددة لكافة المجتمعات بصورة عامة والمجتمع المصري بصورة خاصة، وبالتالي وجب المشاركة في تقديم دراسة تحتوي علي أهم الأسباب التي تدفع إلي الإنتحار سواء من الناحية الواقعية أو الدينية.
2. محاولة وضع طرق لعلاج مشكلة الانتحار والسيطرة عليها.
3. التعرف علي دور القانون لحل هذه المشكلة وهل يجوز تدخله القانون من الأساس، أم أن تدخل القانون لتجريم الانتحار والشروع فيه يعد تشجيع غير مباشر علي هذا الفعل.
4. محاولة وضع توصيات للإعلاميين عند تغطية حوادث الانتحار لتجنب نشر الظاهرة ووسائلها بدلا من السيطرة عليها.
الموضوع:
أصبح الإنتحار مشكلة متكررة بشكل يومي، فلا ينقضي يوماً دون أن نشاهد أخباراً عن أكثر من حادثة إنتحار وبأساليب مختلفة، مما دفعنا للبحث في ماهية الإنتحار والأسباب التي تدفع المنتحر لإنهاء حياته وماهي طرق علاج هذه المشكلة.
أولاً: تعريف الإنتحار
التعريف اللغوي للإنتحار: الانتحار مادته (ن ح ر) ومنه النحر، والمَنحَرُ هو الموضع الذي ينحر فيه الهدي وغيره. وأصل الفعل من الانتحار هو انتحرا انتحاراً أي قتل نفسه بنفسه عمداً.
التعريف الإصطلاحي للإنتحار: أطلق الفقهاء علي الانتحار “قتل الانسان نفسه”، وبالتالي يمكن تعريف الانتحار إصطلاحاً: قتل الانسان نفسه بنفسه بأي وسيلة. ويحقق الانتحار بوسائل وأشكال مختلفة منها ما يكون بفعل المنهي عنه، كقتل النفس باستعمال السيف والرمح أو البندقية وما شابه ذلك، أو أكل السم أو إلقاء نفسه من شاهق أو في النار بقصد إهلاكها أو إتلافها. وقد يكون الانتحار عن طريق الترك المؤدي للموت كالإمتناع عن الأكل والشرب، وترك وسائل النجاة في ظل القدرة علي إستعمالها، وعدم الحركة في الماء أو الفرار من النار، أو عدم التخلص من السبع الذي يمكن النجاة منه.
ثانياً: بداية ظهور مشكلة الإنتحار
تعد مشكلة الانتحار مشكلة إنسانية صاحبت الوجود البشري منذ القدم وحتي يومنا هذا، وظهرت في كافة المجتمعات البشرية وحضارتها المختلفة، واختلفت الرؤية حوله وفقاً لاختلاف الثقافة والدين والمعني الذي يعطي للحياة، وبالرغم من اتفاق جميع الأديان السماوية علي أن الإنتحار فعلاً شنيعاً ومحرماً، إلا أن هناك بعض المجتمعات التي نظرت الي الانتحار علي أنه وسيلة للتكفير عن الخطايا.
ثالثاً: الأساليب الإنتحارية الأكثر إستخداماً
يتوقف السلوك الانتحاري إذا كان مميتاً أم غير مميت علي الأسلوب المستعمل في ذلك، وهذا يختلف من منطقة لأخري ومن بلد لآخر وهو ما أثبته تقرير منظمة الصحة العالمية 2002 حول العنف والصحة، وجاء فيه أن الولايات المتحدة يكثر فيها استخدام الأسلحة كوسيلة للإنتحار في حوالي ثلثي الحالات الإجمالية، أما الصين يكثر فيها التسمم واستعمال المبيدات الحشرية، ويقدر حوالي 20% من حالات الانتحار حول العالم تنجم عن التسمم الذلتي بالمبيدات ويقع معظمها في المناطق الزراعية الريفية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ويعتبر الشنق والأسلحة النارية من الطرق الأخري الشائعة للانتحار.
أما في مصر فإن الوسائل الانتحارية الأكثر شيوعاً هي تناول العقاقير النفسية والقذف من النوافذ والتسمم واستعمال الأسلحة البيضاء والغرق واستعمال مواد التنظيف.
رابعاً أسباب الإنتحار
هل هناك أسباب منطقية تدفع الإنسان للتفكير في إنهاء حياته؟! أم أن الانتحار ما هو إلا طريقة يختارها المنتحر للهروب من الواقع بطريقة خاطئة؟ بعد الإطلاع علي الأبحاث والدراسات التي تناولت مشكلة الإنتحار يمكننا تلخيص أبرز الأسباب التي تدفع للإنتحار فيما يلي:
الأسباب الصحية والنفسية: وفقاً لمنظمة الصحية العالمية، فهناك علاقة بين الإنتحار والإضرابات النفسية وبالأخص الإكتئاب والإضرابات النفسية الناتجة عن تعاطي الكحول وغيره من المخدرات والمسكرات، بالإضافة إلي مشاكل وصعوبات الحياة التي تكون سبباً للإضطراب النفسي والاكتئاب، واليأس والقنوط، وفي الغالب تتداخل هذه العوامل ببعضها البعض وربما يصل الحال إلي درجة الإحباط التام التي تسبب الإنتحار ويمكننا توضيح هذه الحالات بشكل موجز فيما يلي:
الاكتئاب: هو حالة من الحزن واليأس وانقباض الصدر نتيجة اضطرابات وجدانية ونفسية، يؤدي إلي عدم القدرة علي الحب وكراهية الذات حتي يصل الحال إلي التفكير في الموت والانتحار، والاقدام الفعلي عليه. ومن الآثار السلبية أيضاً للاكتئاب الشعور دوماً بالفشل وحب العزلة وقلة الإهتمام بالعالم الخارجي، ولوم النفس وإتهامها بصورة عدوانية تصل إلي الرغبة في الانتحار.
اليأس: هو حالة من الكآبة تتميز بالتوقعات السلبية نحو الحياة والمستقبل، وخيبة الأمل أو التعاسة والنظرة السلبية للذات والعالم والمستقبل، ويمكن تعريفه بأنه حالة إنفعالية تتسم بالتخلي عن الأمل في النجاح لتحقيق غاية وهدف معين.
قلق الموت: الموت هو حقيقة فطرية وقطعية لاتحتمل الجدل، ولا ينكر أحد هذه الحقيقة فرحلة الحياة تبدأ علي هذه الأرض بالولادة وتنتهي بالموت. وينتج عن هذه الحقيقة ما يُعرف في علم النفس “بقلق الموت” وهو نوع من القلق يتركز علي التفكير بموضوعات تتصل بالموت مما يتولد عنه حالات انفعالية ومشاعر حزن وخوف تكون باعثاً للانتحار وتعجل الموت مادام هو النهاية المحتومة.
الأسباب السياسية والعسكرية: الحروب والصراعات السياسية وما ينتج عنها من نزاع مسلح وتهجير قسري وما يترتب عليها من دمار وفقد للإقارب وتشرد، وهجرة غير مشروعة. كل هذه الإشكاليات جعلت الهروب من جحيم النزاعات والصراعات العسكرية والخلافات السياسية سبيله الانتحار للخلاص من آلام لم يتحملها هؤلاء الأشخاص.
الأسباب الإجتماعية والأسرية: من أبرز الأسباب الإجتماعية التي تؤدي إلي الإنتحار هي التمييز العنصري أو التمييز في معاملة الأبناء والتحيز لبعضهم دون الآخر، وحالات العنف الأسري المفرط الذي يكون مصحوباً بالسب والشتم والإهانة، وإنفصال الوالدين وما يترتب عليه من خصومة ونزاع يكون ضحيته الأبناء في الغالب، وضغوط الدراسة والاختبارات التي يواجهها الطلبة في مختلف المستويات الدراسية، وإجبار البنات علي الزواج والتحرش وزنا المحارم الذي لا تستطيع فيه الضحية الإفصاح عما حدث لها لإعتبارات إجتماعية، والإغتصاب. هذه أبرز الصور التي قد يلجأ فيها الأشخاص للتفكير في الإنتحار والإقدام الفعلي عليه للهروب أو التخلص من واقع سيء أو ظلم تعرضوا له.
الأسباب الإقتصادية والمالية: عندما تشهد بعض البلدان حالة من الانهيار والتردي الإقتصادي وانتشار الفقر والبطالة، وما ينتج عن الحروب والكوارث الطبيعية من مجاعة وفقدان العمل ومصادر الرزق، والتعرض للخسارة المالية والإفلاس، تجعل فكرة الانتحار حاضرة للهروب من المسؤولية خاصة في حالة ضعف الوازع الديني أو إنعدامه.
الأسباب الجنائية والقانونية: أحياناً يتعرض مرتكبوا الجنايات والجرائم وأسري الحروب لحالة من الإحباط بعد صدور أحكام تقضي بسجنهم لمدة طويلة، مما يدفعهم للإنتحار للتخلص من واقعهم المرير ومصيرهم المشؤوم في نظرهم، كل هذه الأسباب التي ذُكرت علي سبيل المثال لا الحصر تدفع أصحابها لحالة نفسية مكتئبة فتكون هي الدافع الأقوي للإنتحار.
الأسباب الدينية: من الملاحظ أن أغلب الدراسات المعاصرة لم تتناول مشكلة الإنتحار من الناحية الدينية وكأنها لا تري علاقة بين الإنتحار وضعف الوازع الديني أو إنعدامه. بينما الحقيقة علي عكس ذلك وهو ما ستحاول الدراسة إثباته في الجزء الخاص بطرق العلاج من مشكلة الإنتحار الذي يعتمد بصورة كبيرة علي نشر الوعي الديني ونشر المعتقدات التي تجرم وتحرم هذا الفعل. وفي نفس الوقت لا يمكننا الجزم بأن الوعي الديني هو الطريق لإزالة المشكلة والقضاء عليها بصورة كلية، وإنما محاولة لإزالة الأسباب الرئيسية للمشكلة أو التخفيف منها ومن آثارها السلبية. ويمكننا تلخيص أبرز الأسباب الدينية التي تدفع للانتحار فيما يلي:
إنعدام أو ضعف الوازع الإيماني: فهناك المجتمعات الملحدة التي لا تؤمن بالإله الخالق الحكيم، ويمثل الشر عندهم مشكلة لا يستطيعون حلها إلا بحلول يائسة منها الإنتحار. وهناك المجتمعات العلمانية التي تحاول إبعاد الدين عن كافة مناحي الحياة العامة لانه في نظرهم يمثل عائق للتقدم والرقي وبالتالي لا يكون حلاً لمشاكلهم. أما المجتمعات الدينية فلا شك أن العقيدة الصحيحة هي الركيزة الأولي للعلاج النفسي والأزمات الروحية، ولكن هل نعني بذلك إنعدام الإنتحار في المجتمعات الدينية؟ بالطبع لا، لا تخلو المجتمعات من الإنتحار ولكن تختلف النسب من مجتمع لآخر فالمجتمعات الدينية تكون نسب الإنتحار بها أقل من تلك التي في المجتمعات اللادينية، وما يدفع الأشخاص للإنتحار في المجتمعات الدينية هو ضعف الدين والغفلة عن الإيمان بالله واليوم الآخر.
الجهل بالله والإعراض عنه والغفلة عن ذكره: هي من أبرز الأسباب التي تؤدي إلي الإنتحار فيتضمن الجهل بالله الجهل بأسمائه وصفاته وعدله وحكمته وواسع فضله ومغفرته ورحمته، والجهل بأحكام دينه وشرعه. فالجاهل بالله تعالي تجرأ علي حدوده وارتكب المعاصي التي من أعظمها التعدي بالإنتحار وإتلاف النفس التي خلقها الله ولا يحل لغيره التصرف بها.
خامساً: هل للقانون دوراً في مواجهة الإنتحار والشروع فيه؟
لمعرفة ما إذا كان للقانون دوراً في مواجهة ظاهرة الانتحار أم لا، لابد من الإجابة علي التساؤل الآتي: هل المنتحر مجرماً في نظر القانون والانتحار جريمة يُعاقب عليها؟ بداية لابد من التعرف علي الفرق بن القتل والانتحار وأوجه التشابه والاختلاف بينهما.
يُعرف القتل بأنه اعتداء علي حياة الغير، أي أن من يصدر عنه الإعتداء هو شخص مختلف عمن وقع عليه هذا الفعل، أما إذا اتحد الشخصان كما يحدث في حالة الانتحار فقد اختفي معني القتل، ومعني ذلك أن الانتحار لا يخضع للنموذج القانوني للقتل. وبالتالي ليس هناك نص تشريعي يُجرم الانتحار أو الشروع فيه ويمكن تبرير عدم تجريم الشروع في الانتحار فيما يلي:
• أنه إذا كان الانتحار لايعد جريمة يُعاقب عليها القانون، فلا يمكن أن يكون هناك عقاب علي الشروع في فعل لا يعد جريمة أصلاً.
• تجريم الشروع في الإنتحار يؤدي لنتائج سلبية وليس العكس، لان الشخص الذي اختار الانتحار لم يختاره إلا لأنه يعاني من ظروف قاسية دفعته للتفكير في ذلك، فإذا أخفق هذا الشخص في تحقيق الانتحار، ثم يتبين أنه سيعاقب علي هذا الفعل، فبتأكيد سيدفعه هذا العقاب للتفكير في الانتحار مرة أخري مع وجود إصرار علي تحقيقه.
وبالتالي، تجريم الشروع في الانتحار يمكن تفسيره بأنه تشجيع غير مباشر علي الانتحار في مرات لاحقة للتخلص من هذا العقاب. لذلك لا تُجرم السياسات الجنائية الحالية هذا الفعل، نظراً للبعد الاجتماعي والنفسي لهذا الشخص.
وبالتالي يتضح أن بالرغم من أن تحريم الانتحار في جميع الأديان السماوية، إلا أن القانون المصري لا يعاقب إلا علي القتل، أما إذا اتحدا الشخصان أي في حالة اتحاد شخصية الجاني والمجني عليه معاً ينتفي القتل وويتجرد هذا الفعل من التجريم والعقاب. وبالتالي ليس للقانون دوراً في مواجهة الانتحار، ولا يقع علي عاتق النيابة العامة سوي التأكد ما إذا كان هناك شبهة جنائية في حدوث الوفاة أم لا.
سادساً: أثر الإعلام في إنتشار مشكلة الإنتحار
أحياناً تكون طريقة تغطية حوادث الإنتحار سبباً في انتشار الظاهرة والتشجيع عليها، حيث تتعدد الطرق التي يتبعها الإعلاميون في تغطية حوادث الإنتحار ومنهم من يقع في الممارسة الخاطئة غير المهمة للشأن العام وفي نفس الوقت تضر بأسرة المنتحر، أو إنها تنعكس سلبياً علي المجتمع وذلك حين تقدم التغطية سبل ووسائل الانتحار تؤدي إلي تشجيع أشخاص آخرين علي استخدامها للانتحار. وبالتالي يتوجب علي الإعلاميين الحذر عند تغطية تلك الحوادث لعدم إلحاق الضرر بالحياة الخاصة للآخرين. وفي ظل الأخطاء المتزايدة التي يرتكبها الإعلاميين عند تغطية تلك الحوادث، حذرت منظمة الصحة العالمية من أن بعض أنواع التغطية الإخبارية يمكن أن تزيد من إحتمالات إقدام مزيد من الأشخاص علي الانتحار، وشددت علي ضرورة اتباع الاعلاميين النصائح التالية:
1. استخدام لغة خالية من الإثارة عند تغطية حوادث الإنتحار وأن يكون العنوان معبراً عن الحادثة دون إضفاء نوعاً من الدراما أو استخدام المصطلحات المثيرة، والبعد عن جعله مسألة إعتيادية أو طبيعية، وإنما التعبير عن هذا الفعل بإعتباره فعلاً سلبياً، واختياره ليس حلاً للمآزق والمشاكل. بالإضافة إلي الامتناع عن الاشارة إلي طريقة الانتحار أو الكشف عن مضمون رسالة الانتحار إن وجدت.
2. عدم تسليط الضوء أو التركيز علي حوادث الإنتحار وتكرار الحديث عنها دون داعي، لأن إبراز قصص الإنتحار يمكن أن تؤدي إلي زيادة السلوكيات الانتحارية لاحقاً.
3. وضع حوادث الإنتحار في الصفحات الداخلية من الصحف وفي أسفل الصفحة، وبخصوص النشرات الإخبارية في الراديو والتليفزيون فيجب أن تأتي تلك الأخبار في نهاية النشرة بدلاً من تصدرها نشرات الأخبار.
4. ضرورة أن تحتوي التقارير الإعلامية علي حقائق خاصة بالإنتحار والوقاية منه لتثقيف الجمهور بدلاً من نشر الخرافات الخاصة بحادثة الانتحار، لأن تكرار الحديث عن تلك الخرافات يؤدي إلي إنتهاج السلوك الانتحاري بدافع تقليد الغير. كما لا يجوز استخدام الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بمشهد الإنتحار.
5. عدم الإفراط في تبسيط أسباب الانتحار بصورة مضللة ولا تعبر عن صعوبته، بل وتدفع الكثير إلي ارتكاب ذلك الفعل. علي سبيل المثال، لا يجوز للإعلامي أن يشير إلي أن سبب الانتحار أمر بسيط مثل فقدان الوظيفة أو انهيار العلاقة العاطفية، ومن المهم عدم تغاضي الصحفي عن الحقائق المعقدة للانتحار وآثارها المدمرة.
6. يجب أن يكون الإعلامي حذراً عند الحديث عن طرق ووسائل الانتحار، وعدم تقديم أي معلومات عن الطريقة التي اتبعها الشخص في الانتحار. فعلي سبيل المثال من الممكن أن يقول تناول جرعة زائدة، ولكن من غير الممكن أن يتحدث عن نوعية الحبوب وجرعتها وعددها.
سابعاً: نماذج للانتحار بأسباب وطرق مختلفة
اختلفت طرق وأسباب الانتحار من شخص لآخر وفيما يلي سنقوم بعرض بعضاً من حالات الانتحار التي وقعت شهدتها الفترة الأخيرة في مصر.
• قامت زوجة في ميت غمر بالدقهلية بالتخلص من حياتها بقرص الغلة السام، وذلك بسبب وجود خلافات عائلية بينها وبين زوجها. وظلت تعاني من تأثير ذلك السم لمدة يومين حتي لفظت أنفاسها الأخيرة.
• قام شاب في الإسماعيلية بالقفز من أعلي كوبري نفيشة بالإسماعيلية، وتم إستخراج جثته بعدها بساعات. وذلك لمعاناته من أزمة نفسية وتناوله لأدوية مضادة للاكتئاب بعد تعرضه لأزمة نفسية نتيجة أزمات مادية تعرض لها.
• قامت ربة منزل بمحافظة الغربية بتناول سم الفئران، وذلك بسبب خلافات مع زوجها دفعتهم للطلاق فتدهورت حالتها الصحية.
• قامت فتاة بمحافظة الغربية بالتخلص من حياتها بتناول مواد سامة، وذلك بسبب قيام شاب بفبركة صور لها باستخدام أحد برامج تعديل الصور وقام بنشرها علي مواقع التواصل الاجتماعي لإبتزازها. ولم تتحمل تلك الفتاة التبعات الاجتماعية لانتشار تلك الصور المفبركة في قريتها فأقدمت علي إنهاء حياتها.
• قام شاب في محافظة المنصورة بإلقاء نفسه من أعلي كوبري جامعة المنصورة بسيارته، وذلك بسبب خلافات مع والده وفقاً لما نشره علي مواقع التواصل الاجتماعي.
• قامت فتاة في مدينة نصر بإلقاء نفسها من أحد الطوابق العلوية في مول سيتي ستارز بمدينة نصر ولفظت الفتاة أنفاسها الأخيرة قبل وصول سيارة الإسعاف، وذلك بسبب سوء حالتها النفسية وشعورها بالاضطهاد وسوء المعاملة من قبل أسرتها، وذلك وفقاً لما صرحت به صديقتها المقربة.
• قامت طالبة بمحافظة المنيا بالانتحار شنقاً داخل منزلها، ووفقاً لأقوال والدتها فإن ما دفعها للانتحار هو وجود خلافات عائلية تسببت في ارتكابها لهذا الفعل.
• قامت طالبة بمحافظة الغربية بإنهاء حياتها برصاصة في الرأس أمام أسرتها، وذلك بعد دخولها في أزمة نفسية حادة. وبينت التحقيقات في الواقعة أن سبب قدوم تلك الفتاة علي الانتحار هو خلافات مع والدها لرفضه التحاقها بكلية الصيدلة بإحدي الجامعات الخاصة.
ووفقاً للتقارير والدراسات التي تناولت قضية الانتحار، تبين أن الذكور أكثر إرتكاباً لحوادث الانتحار بنسبة 79.3% مقابل 20.7% للإناث. ويرجع ذلك إلي أن الذكور هم المسؤولين عن تلبية إحتياجات أسرهم، وعندما تزيد تلك الحاجات عن مقدرة رب الأسرة فإن ذلك يشكل ضغطاً عليه.
ومن حيث الحالة العمرية، فإن الفئة العمرية (30:21) عاماً هي أكثر الفئات العمرية وقوعاً في الانتحار، تليها الفئة العمرية (50:41) ثم (40:31) تليها الفئة العمرية (20:11)، وأخيراً الفئة العمرية (60:51).
ثامناً: طرق علاج الانتحار
التغلب علي مشكلة الانتحار والسيطرة عليها يتطلب بذل العديد من الجهود وذلك من كافة الجهات المعنية، ومنها الأسرة، والإعلام، والدين والدولة. وفيما يلي ستحاول الدراسة توضيح أبرز الأدور التي يجب أن تقوم بها كلا من تلك الجهات كمحاولة للسيطرة علي تلك الظاهرة.
الدولة: تعتبر مشكلة الانتحار مشكلة للصحة العامة ومرضاً من الأمراض غير السارية، وبناءاً علي ذلك فإن وزارة الصحة هي الوزارة المسؤولة بصفة أساسية بمواجهة الانتحار وبالتالي يجب علي الدولة:
• الحد من الوصول إلي وسائل الانتحار الخاصة بعضوية وزارة الزراعة والبيئة والتنمية المحلية.
• رفع الوعي المجتمعي بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني بمشكلة الانتحار والوقاية منها وذلك بالتعاون مع وزارات الاعلام والثقافة والشباب والتعليم والاوقاف إلي جانب الازهر والكنيسة والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للطفولة والامومة.
• دعم البحوث والدراسات والتدريب بالجامعات ومراكز البحوث.
• إعداد شرطة متخصصة والاقتداء بالنموذج الفرنسي في ذلك.
• إنشاء مكتب للإستشارات النفسية وآخر للاستشارات الدينية داخل كل جامعة.
• استحداث برامج للدعم النفسي بالإضافة إلي التأهيل المجتمعي لمن يحاول الانتحار.
• التعاون مع المجلس القومي للمرأة ومجلس الطفولة والأمومة للحد من الزواج المبكر والإكراه علي الزواج بإعتبارهما ضمن الاسباب الأكثر تكراراً التي تدفع إلي الانتحار.
• الحد من الوصول إلي الأدوية باشتراط الحصول علي الوصفات الطبية.
• تقييد تداول السموم والمبيدات وتفعيل الرقابة.
الأسرة: للأسرة والبيئة المحيطة بالشخص دوراً كبيراً في تشكيل بنائه النفسي وذلك في ظل الثقافة السائدة والأصول والموارد المتاحة، وبالتالي لابد من إتباع نمط تربية الأبناء الذي يبتعد عن الوصاية والتقليل من شأنهم، بالإضافة إلي مراعاة عدم فرض سيادة الأهل علي اختيارات الأبناء في بعض الأمور مثل العمل والزواج والدراسة وغيرها من الأمور الخاصة. والبعد عن المقارنة بين الأخوة والأقارب، لان تلك الثقافة تحبط الشخص وتسبب له أمراض نفسية ولا تشجعه كما في إعتقادهم.
كما يُعتبر المنزل ليس فقط مكاناً للسكن والإقامة، وإنما أيضاً بمثابة وحدة إنتاجية، لذلك يجب تربية الأبناء تربية جيدة صحيحة نفسياً وعقلياً ودينياً لبناء شخصيات سلمية ومفكرة وقادرة علي تحمل الصعاب والمشاكل بالشكل الصحيح دون التفكير في اختيار الانتحار كحل لتلك المشاكل.
الدين: تعتبر التوعية الدينية خطوة مهمة لمواجهة مشكلة الانتحار وتوازي في أهميتها التوعية النفسية والتأهيل النفسي في المجتمعات، بل قد تكون سابقة عليها في بعض الأحيان. فالمؤمن بالله واليوم الآخر لابد أن يعي حكم الانتحار ليعلم العاقبة التي تنتظره والعذاب الأليم الذي سيحل به. والانتحار من كبائر الذنوب المحرمة وبالتالي لابد من تقوية ذلك الاعتقاد في قلب المؤمن لما له من أثر بليغ في علاج مشكلة الانتحار لإن عدم الايمان بالله يولد الضياع عند أرباب الكفر وتدفع هذه المشاعر الكثير من الأشخاص إلي الانتحار لإنهم لم يدركوا الحكمة من خلقهم في هذه الحياة.
وبالتالي، التوعية الدينية لا تقل أهمية عن التوعية النفسية لدي الأشخاص، بل أن التوعية الدينية في هذا الأمر هي الأساس لإن الشخص المؤمن بالله والواعي بإحكام دينيه لا يمكن أن يُقبل علي ذلك الفعل، لذلك وجب التوعية بالإيمان بالله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وحسن الظن بالله سبحانه وتعالي.
الإعلام: تعتبر التغطية الإعلامية لحوادث الانتحار أمراً بالغ الأهمية، ولكن يشترط أن تكون بشكل صيحيح، وذلك لأن التغطية الخاطئة لتلك الحوادث قد تشجع بشكل غير مباشر علي زيادة نسبة الانتحار. وبالتالي كما ذكرت الدراسة سابقاً لابد من اتباع بعض التعليمات عند تغطية حوادث الانتحار كالبعد عن الاثارة، وأهمية التحدث عن تلك الحوادث بإعتبارها فعلاً سيئاً والبعد عن تناولها علي أنها أمراً سهلاً وطبيعياً وغيرها من التعليمات التي ذكرتها الدراسة.
وختاماً، بعد استعراض أهم الطرق لعلاج مشكلة الانتحار يمكننا استخلاص عدداً من التوصيات فيما يلي:
1. ضرورة إنشاء برامج لحماية الأفراد من الوقوع في الانتحار، وتعمل تلك البرامج علي:
• تقديم الدعم النفسي والصحي للأفراد الذين لديهم نية علي الانتحار وتقديم المساعدة لهم.
• المتابعة المستمرة للإفراد الذين حاولوا الانتحار من قبل وإخضاعهم لبرامج إعادة تأهيل وتعديل السلوك الانتحاري إلي سلوك إيجابي.
• إنشاء قاعدة بيانات علي مستوي الجمهورية توضح أعداد حالات الانتحار والشروع فيه، ومن ثم وضع خطة علاجية للتقليل من هذه الظاهرة في المستقبل.
2. زيادة حملات التوعية بمخاطر الاكتئاب، خاصة في حالة التعرض للضغوط الاجتماعية والأزمات الاقتصادية.
3. التأكيد علي أن دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية مستمر مدي الحياة ولا يقتصر علي مرحلة عمرية معينة.
4. تكثيف جهود الدولة من أجل تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للشباب وتقديم تسهيلات لتوفير حياة كريمة لهم.
5. ضرورة التوعية الدينية لكل أفراد المجتمع والتأكيد علي حرمانية الانتحار وخطورته علي الفرد والأسرة والمجتمع.
6. نشر الوعي عبر وسائل الاعلام التقليدية والحديثة بضرورة الابلاغ عن أي حالة لديها نية للانتحار، من أجل تقديم المساعدة لتلك الحالات.
7. التأكيد علي دور الأسرة باعتبارها المؤسسة الاجتماعية الأولي لزيادة وعي الآباء والأمهات بأهمية توفير بيئة أسرية آمنة تقوم علي الود والمحلة والعطف وتخلق الشعور بالأمان والاستقرار النفسي لجميع أفراد الأسرة.
8. التـأكيد علي أهمية دور وسائل الإعلام بمختلف أشكالها في بث قضايا المجتمع.
9. توعية الشباب من خلال البرامج والأنشطة لتقوية إيمانهم ورفع المستوي الأخلاقي والقيمي لديهم، ليكونوا قادرين علي مواجهة صعوبات الحياة بعقول مدركة وواعية.
10. ضرورة توجية المراكز البحثية والعلمية بأهمية دراسة القضايا الإجتماعية عامة والانتحار خاصة والعمل علي إيجاد المقترحات والحلول التي تساهم في السيطرة علي مشكلة الانتحار.